كشفت منظمة الصحة العالمية عن تحول محوري في مسار تحسين جودة الحياة الصحية في المنطقة العربية، حيث أعلنت وجود أكثر من 2.4 مليون مريض يحتاجون الرعاية التلطيفية سنويا في إقليم الشرق الأوسط، الذي يضم معظم الدول العربية.
منظمة الصحة العالمية بإعلان هذا الرقم الصادم كشف عن فجوة إنسانية وصحية كبيرة تستدعي تحركا واسعا من الحكومات والمنظمات لتوفير الرعاية للمصابين بالأمراض المزمنة والحرجة.
ما هي الرعاية التلطيفية؟
الرعاية التلطيفية هي أحد أهم فروع الطب الإنساني، تعنى بتخفيف آلام المرضى وتحسين نوعية حياتهم النفسية والجسدية في مواجهة أمراض تهدد الحياة، مثل السرطان والفشل العضوي وأمراض الشيخوخة.
وتوضح منظمة الصحة العالمية أن إدخال هذه الرعاية في مراحل مبكرة من العلاج يساعد على تقليل المعاناة بنسبة كبيرة، كما يحدّ من التكاليف الصحية العامة بنسبة تصل إلى 30% نتيجة تقليل الحاجة إلى الإقامة الطويلة في المستشفيات.
وفي دول الشرق الأوسط، لا تزال هذه الخدمات محدودة، رغم الزيادة المستمرة في أعداد المرضى المحتاجين إليها، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية والحروب والنزاعات التي تشهدها بعض بلدان المنطقة، ما جعل آلاف المرضى يعيشون في معاناة مزدوجة — صحية ونفسية.
وتأتي تصريحات منظمة الصحة العالمية عقب انعقاد الدورة الثانية والسبعين للجنة الإقليمية لشرق المتوسط، التي جمعت وزراء الصحة وممثلي 22 دولة عربية وإسلامية، حيث تم إقرار قرار جديد يعد نقطة تحول تاريخية في مجال تطوير خدمات الرعاية التلطيفية في الإقليم.
القرار الجديد يدعو الدول الأعضاء إلى:
- إدماج الرعاية التلطيفية ضمن الخطط الوطنية الصحية.
- توفير الأدوية الأساسية لتخفيف الألم والمعاناة.
- إدخال التدريب الإلزامي للعاملين الصحيين في هذا المجال ضمن برامج التعليم الطبي.
- الاعتراف بالتخصص المهني للرعاية التلطيفية كمسار طبي متقدم.
- إعطاء الأولوية للرعاية المنزلية والمجتمعية للمرضى.
- تطوير مؤشرات قياس الأداء الصحي والبحث العلمي في هذا المجال.
الرعاية التلطيفية في المنطقة العربية
وتشير البيانات إلى أن العديد من الدول العربية لا تمتلك حتى اليوم مراكز متخصصة في الرعاية التلطيفية، باستثناء مبادرات محدودة في مصر والأردن ولبنان والإمارات.
أما في دول مثل العراق والسودان، فما زال القطاع الصحي يعاني من تحديات هيكلية تحول دون إنشاء مراكز قادرة على تلبية هذه الحاجة الإنسانية.
في حين، تظهر التجارب الدولية أن الاستثمار في هذا النوع من الرعاية يحسن نتائج العلاج الطبي العام ويرفع من رضا المرضى وأسرهم، ما يجعله أحد أعمدة التنمية الصحية المستدامة.
منظمة الصحة العالمية: توفير الرعاية التلطيفية حق إنساني
وذكر بيان منظمة الصحة العالمية أن توفير الرعاية التلطيفية ليس ترفا طبيا بل حق إنساني أساسي لكل مريض، خصوصا في المراحل المتقدمة من المرض.
ونوه البيان إلى أن المنظمة تعمل بالتعاون مع الدول الأعضاء على وضع أطر عمل تنفيذية تتضمن تدريب الكوادر الطبية وتحديث المناهج الجامعية وتوفير مسكنات الألم بشكل قانوني وآمن.
وأوضحت المنظمة أن الدمج المبكر للرعاية التلطيفية ضمن البرامج العلاجية يمكن أن يقلل من استخدام الأدوية المكلفة والإجراءات المعقدة ويعيد التوازن بين العلاج والرحمة، بما يحقق ما تسميه المنظمة “الشفاء الإنساني قبل الجسدي”.
ورغم أهمية القرار الجديد، إلا أن الطريق نحو تطبيقه ليس سهلا
فهناك العديد من التحديات في البنية التحتية الصحية ونقص التمويل المخصص لهذا القطاع وضعف الوعي المجتمعي لدى كثير من الأسر حول ماهية الرعاية التلطيفية.
وأيضا تواجه بعض الدول عوائق قانونية تتعلق بتوفير المسكنات القوية مثل المورفين، نتيجة الخوف من إساءة استخدامها.
ولهذا دعت منظمة الصحة العالمية إلى تعزيز الشراكات بين الحكومات والمجتمع المدني والمنظمات الدولية لضمان الوصول المتكافئ لهذه الخدمات لكل محتاج، خصوصًا في المناطق النائية أو المتضررة من النزاعات.
الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية في الرعاية التلطيفية
ووفق تقارير المنظمة، فإن كل دولار يستثمر في توسيع خدمات الرعاية التلطيفية يوفر على الدولة ما يقارب 3 دولارات من نفقات الرعاية الطبية المكثفة.
كما أن الرعاية المجتمعية تساهم في خلق فرص عمل جديدة للكوادر الصحية والاجتماعية وتعزز من روح التضامن الإنساني داخل المجتمع.
ويرى خبراء الاقتصاد الصحي أن تطوير هذا القطاع يمكن أن يساعد الحكومات على ضبط ميزانيات الصحة وتحويل الموارد نحو برامج وقائية طويلة الأمد، مما ينسجم مع أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة لعام 2030.
ويمثل إدماج الرعاية التلطيفية في السياسات الصحية الوطنية نقطة تحول حقيقية في فلسفة الطب والرعاية، إذ ينقل التركيز من مجرد علاج المرض إلى رعاية الإنسان ككل.
ومع استمرار الأمراض المزمنة والشيخوخة السكانية في الإقليم، بات من الضروري أن تدرج كل دولة خططا عملية لإنشاء وحدات للرعاية التلطيفية في المستشفيات والمراكز الطبية.
ويعد قرار منظمة الصحة العالمية دعوة مفتوحة للعمل الجماعي في العالم العربي نحو تأسيس أنظمة صحية أكثر رحمة وعدالة واستدامة، حيث لا يُترك أي مريض يعاني بصمت، بل يجد من يخفف عنه الألم ويحفظ له كرامته حتى اللحظة الأخيرة من حياته.

