شهدت قاعة فندق توباكتس بالعاصمة طرابلس، انعقاد ندوة ثقافية فنية حملت عنوان «المسرح والمجتمع في ليبيا»، احتفالا بمسيرة الفنان داوود الحوتي الذي يعد أحد أبرز رواد المسرح الليبي منذ ستينيات القرن الماضي وذلك ضمن فعاليات المهرجان الوطني للفنون المسرحية في دورته الثالثة عشرة، التي تنظمها الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون.
وجاءت هذه الندوة ضمن برنامج ثقافي شامل يهدف إلى تسليط الضوء على رموز الإبداع المسرحي في ليبيا وتوثيق تجاربهم الثرية للأجيال الجديدة وقد استعرض المشاركون في الندوة مشوار الفنان داوود الحوتي، الذي انطلق منذ عام 1965، بمشاركته في أعمال مسرحية بارزة محليا وعربيا، مثل بيت الله الحرام والقاعدة والاستثناء والمستشفى، التي تعد من كلاسيكيات المسرح الليبي.
ونقلت وكالة الأنباء الليبية عن عضو اللجنة الثقافية بالمهرجان، مصطفى الصادق، قوله إن الندوة تمثل تكريم مستحقا لفنان قدم الكثير للمسرح الليبي وأسهم في إثراء الحركة الثقافية بأعمال خالدة لا تزال حاضرة في ذاكرة الجمهور.
وقال الصادق: «الفنان داوود الحوتي ليس مجرد ممثل، بل هو مدرسة في الأداء المسرحي والفكر الإنساني ومسرحية المستشفى وحدها تعد نموذجا متكاملا في النقد الاجتماعي والفني».
قراءة نقدية في تجربة الفنان داوود الحوتي
وفي الجلسة الرئيسية للندوة، قدم كل من الكاتب والناقد محمد المالكي والفنان خالد الفاضلي ورقتين نقديتين تناولتا تجربة الحوتي الفنية من جوانب متعددة، بين التأصيل التاريخي والتحليل الجمالي، فيما أدار الجلسة الكاتب المعروف منصور بوشناف، بحضور عدد من الأكاديميين والمثقفين والمهتمين بالشأن المسرحي.
وأوضح المالكي خلال مداخلته أن تجربة الحوتي تمثل نقطة تحول في بنية المسرح الليبي الحديث، إذ استطاع عبر أعماله أن يربط الفن بالواقع ويعالج قضايا اجتماعية وإنسانية معقدة بأسلوب فني جريء.
وقال: «الفنان داوود الحوتي قدم للمسرح الليبي رؤية متكاملة تتجاوز الترفيه إلى التنوير وجعل الخشبة منبرًا للنقاش والحوار حول قضايا المجتمع».
أما الفنان خالد الفاضلي فقد استعرض من خلال ورقته التحليلية أسلوب الحوتي الإخراجي وتميزه في الأداء التمثيلي، موضحا أن أعماله تنتمي إلى المدرسة الواقعية الرمزية التي تربط الشكل الفني بالمضمون الاجتماعي.
وأضاف أن الحوتي كان من أوائل من استخدم الرمزية المسرحية في معالجة قضايا الحرية والعدالة الاجتماعية وهو ما جعل أعماله خالدة عبر الزمن.
وشهدت الندوة حضورا لافتا لعدد من رموز الوسط الثقافي والفني في ليبيا، من ممثلين ونقاد وكتاب وصحفيين، إلى جانب حضور طلاب من معاهد الفنون الدرامية، الذين عبروا عن سعادتهم بالمشاركة في فعالية تعيد إلى الأذهان تاريخ المسرح الليبي الزاخر بالإنجازات.
وأكد المشاركون أن هذه الندوة تجسد وفاء المؤسسات الثقافية الليبية لرموزها الفنية وتفتح الباب أمام جيل جديد من المبدعين للاستفادة من التجارب الرائدة.
فعاليات المهرجان الوطني للفنون المسرحية
وجاء تنظيم هذه الندوة ضمن فعاليات المهرجان الوطني للفنون المسرحية في نسخته الثالثة عشرة، الذي انطلقت فعالياته هذا الأسبوع بمشاركة عشرات الفرق المسرحية من مختلف المدن الليبية، وسط اهتمام إعلامي وثقافي واسع.
ويسعى المهرجان إلى إحياء النشاط المسرحي الليبي بعد سنوات من التحديات، عبر تقديم عروض نوعية تعالج قضايا اجتماعية ووطنية بأساليب فنية مبتكرة.
من جانبه، قال رئيس اللجنة التنظيمية للمهرجان، عبدالسلام البشتي، إن المهرجان يسعى هذا العام إلى أن يكون منصة للحوار الثقافي بين الأجيال ومناسبة لتكريم الرواد الذين وضعوا بصمتهم في تاريخ المسرح الليبي.
ونقلت وكالة الأنباء الليبية عن البشتي، قوله «نحن نؤمن أن المسرح مرآة المجتمع وأن تكريم قامات فنية مثل داوود الحوتي هو واجب وطني وثقافي في آن واحد».
وقد شهدت الفعالية كذلك عرضا مرئيا وثائقيا تناول محطات من مسيرة الفنان داوود الحوتي، تضمن مقاطع نادرة من أرشيف أعماله المسرحية والتلفزيونية وشهادات لعدد من زملائه وتلاميذه الذين تحدثوا عن تأثيره الإبداعي وأسلوبه الإنساني في التعامل مع زملائه.
وأكد المشرفون على الفعالية أن الهدف من هذا العمل التوثيقي هو حفظ الذاكرة المسرحية الليبية من الاندثار وإعادة تقديمها للأجيال الجديدة كجزء من التراث الثقافي الوطني.
كما اتفق المشاركون في الندوة على أن المسرح الليبي كان ولا يزال أحد أهم أدوات التعبير الثقافي والاجتماعي، إذ استطاع منذ نشأته أن يكون منصة لنشر الوعي والتنوير ومناقشة التحديات التي تواجه المجتمع.
وأشار الكاتب المسرحي صالح الزواوي خلال مداخلته إلى أن المسرح في ليبيا مثّل دائما مساحة للحوار البناء بين الفن والواقع وأن الفنانين الكبار مثل داوود الحوتي جسدوا تلك الرسالة بكل إخلاص.
وقال الزواوي: «حين نتحدث عن المسرح، فإننا نتحدث عن ضمير الأمة. والحوتي كان من أوائل من أدركوا أن المسرح ليس مجرد عرض، بل رسالة فكرية وثقافية».
ووجهت وزارة الثقافة والتنمية المعرفية تحية تقدير للفنان داوود الحوتي، مؤكدة في بيان لها أن تكريمه يعكس التزام الدولة بدعم الإبداع وتشجيع الفنون الهادفة.
وأوضح بيان للوزارة أنها تعمل حاليا على إعداد أرشيف وطني للمسرح الليبي يوثق أعمال الرواد والفنانين والمخرجين، بالتعاون مع الهيئة العامة للسينما والمسرح والفنون.
وتستمر فعاليات المهرجان خلال الأيام المقبلة بعقد ندوات فكرية جديدة تناقش قضايا المسرح الشبابي والتجارب المسرحية في المدن الليبية، إلى جانب عروض مسرحية من بنغازي ومصراتة وسبها والزاوية.
وستقام ورش تدريبية في مجالات الإخراج والكتابة المسرحية والإضاءة والصوت، بإشراف نخبة من المختصين والفنانين.
وقد اختتمت الندوة بتكريم الفنان داوود الحوتي بدرع المهرجان وشهادة تقدير وسط تصفيق الحضور الذي عبر عن امتنانه لفنان لطالما كان رمزا للعطاء الفني والالتزام الإبداعي.
وعلق الحوتي بعد التكريم قائلا: «أنا مدين للمسرح بالكثير، فهو الذي علمني كيف أعبر عن الإنسان الليبي وكيف أترجم همومه وأحلامه على الخشبة، أشكر كل من ساهم في هذا التكريم وأتمنى أن يواصل الشباب ما بدأناه قبل ستين عاما».
هذا الحدث الثقافي، يثبت المسرح الليبي من جديد أنه قادر على الاستمرار والتجديد وأن فنه لا يزال حاضرا في وجدان كل الليبيين، يجمع بين الأصالة والإبداع ويعبر عن تطلعاتهم نحو المستقبل.

