الضربات المتتالية التي وجهتها إسرائيل إلى العمق الإيراني، سواء في قلب طهران أو على امتداد الجغرافيا العسكرية التابعة لطهران في سوريا والعراق ولبنان واليمن، لم تكن مجرد استعراض قوة عسكري أو ردود فعل تكتيكية مؤقتة، بل تحمل في طياتها رسالة عنوانها: “إيران باتت مكشوفة، والردع التقليدي انتهى”.
منذ مقتل الجنرال قاسم سليماني ونصرالله وحتى تفجير منشآت نطنز ومقرات الحرس الثوري في طهران، مرورًا باغتيال علماء الذرة والمستشارين العسكريين، يمكن القول إن إسرائيل نقلت الحرب إلى داخل البيت الإيراني دون أن تجد ردعًا حقيقيًا.
السؤال المطروح اليوم: أين الرد الإيراني؟ وهل ما تزال طهران تملك قدرة الرد أم أن الردع الإسرائيلي الأمريكي قد استنزفها فعليًا؟
إيران، طالما تباهت بـ”محور المقاومة” وهددت مرارًا بجعل تل أبيب ” خردة ” تحت النار في حال المساس بأي من عناصرها، تجد نفسها اليوم في موقف هو الأكثر ضعفًا منذ قيام الثورة الإسلامية عام 1979. فالخطاب الناري الذي اعتاد عليه العالم من قادة الحرس الثوري والقيادة العليا لم يُترجم ميدانيًا إلى أي رد استراتيجي بحجم الضربات التي تعرضت لها طهران.
الردود الإيرانية حتى الآن تمثلت بقصف غير دقيق على قواعد أمريكية في العراق، أو استخدام أذرعها في المنطقة مثل الحوثيين وحزب الله وفصائل في سوريا والعراق، لكن هذه الردود لم تكن بحجم الضربات التي تلقتها. بالعكس، بدت أقرب إلى حفظ ماء الوجه منها إلى استراتيجية ردع.
على ما يبدو ان إيران اختارت استراتيجية “الصبر الاستراتيجي”، وأنها تسعى لتجنب حرب مفتوحة في توقيت لا يخدمها اقتصاديًا أو سياسيًا، خاصة في ظل العقوبات الاقتصادية الخانقة والاحتجاجات الداخلية والانقسامات في صفوف النخبة السياسية.
لكن هذه القراءة قد تكون ساذجة في ظل حجم الاختراق الأمني داخل الدولة الإيرانية، والذي سمح بتصفية قادة كبار وقادة المقاومة وضيوف طهران دون أن تتحرك فعليًا، هنا لا نتحدث عن لحظة مناسبة للرد، بل عن لحظة فُقد فيها التوازن.
هل يمكن أن نصدق أن إيران – الدولة التي تدير ميليشيات وجيوش ظلّ عبر أربع قارات – عاجزة عن الرد على اغتيال كبار قادتها وضربها بهذا الشكل المهين؟ أم أن هذه القدرة قد تبخرت مع تحييد أدواتها واحدة تلو الأخرى؟ وكأن إسرائيل تقول لطهران: نحن من يملك توقيت الحرب.
الخطورة في الاستراتيجية الإسرائيلية الأخيرة أنها لا تعتمد على الحرب الكاملة، بل على “التآكل الذكي” لقدرات الخصم، فتدمير البنية التحتية للنووي الإيراني، واستهداف منظومات القيادة، واختراق الحلقات الأمنية، جعلت من إيران دولة تتلقى الضربات دون أن تتمكن من فك شيفرة الفاعل أو اختيار ساحة وتوقيت الرد.
في الواقع، قد تكون إسرائيل قد حسمت المعركة فعليًا قبل أن تبدأ. فبدلًا من الدخول في حرب كلاسيكية، بدأت بإفراغ الخصم من الداخل، أمنيًا وعسكريًا وشعبيًا.
لا يمكن فصل ما يجري عن الموقف الأمريكي. فالتنسيق الاستخباراتي بين الموساد ووكالة الاستخبارات المركزية لم يعد سرًا، والتحركات الأمريكية في الخليج، خصوصًا تعزيز التواجد البحري في مضيق هرمز، تكشف أن هناك استعدادًا لأي رد فعل إيراني محتمل – وإن كان مستبعدًا في الوقت القريب.
واشنطن من جهتها تريد أن ترى إيران جاثية على ركبتيها، ولكن من دون دخول حرب مباشرة معها إسرائيل هي من ينفذ المهمة، بينما أمريكا تمسك العصا الدبلوماسية والعقوبات.
السيناريو الأخطر يتمثل في أن طهران – وبعد تراكم الهزائم الميدانية والأمنية – قد تلجأ إلى خيار يائس: تفجير الوضع في المنطقة عبر ضربة كبيرة في الدول المجاورة أو في الأراضي المحتلة لكسب تأييد شعبوي عربي يعود للاصطفاف خلفها بحسب أحلامهم. لكن هذا الخيار بمثابة “الطلقة الأخيرة” التي ستقود حربًا شاملة ضدها فقد تكون طهران افغانستان العصر الحديث .
أما السيناريو المرجح، فهو مزيد من الصمت الإيراني، مصحوبًا باستعراضات إعلامية عبر الأذرع الإقليمية، دون تحركات ميدانية مباشرة، في انتظار الانتخابات الأمريكية أو تغيرات سياسية إقليمية.
الرد الإيراني لم يأتِ، وربما لن يأتي بالشكل الذي كانت تتوعد به طهران طوال عقدين. إسرائيل لا تنتظر، بل تُبادر وتُفاجئ وتقتل، وطهران تتراجع، تتألم، وتُشيّع شهداءها في صمت ولطم .
إيران اليوم تقف على مفترق طرق: إما أن ترد وتفتح أبواب جهنم على نفسها والمنطقة، أو تواصل سياسة الصبر حتى التفكك الكامل. وفي الحالتين، لم تعد هي اللاعب الذي يرعب المنطقة كما كان يروج لها .