شهدت أسواق النفط العالمية تراجعا طفيفا في بداية التعاملات الآسيوية، بعد موجة ارتفاع حادة خلال جلسات الأسبوع الماضي، في وقت لا تزال فيه الأسواق الدولية تعيش حالة من الترقب بشأن مستقبل الإمدادات النفطية وتطورات الاقتصاد العالمي.
وانخفضت العقود الآجلة لخام برنت القياسي بمقدار 17 سنتا، أي بنسبة تقارب 0.3 بالمئة، لتسجل نحو 65.82 دولارًا للبرميل، بينما تراجعت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأمريكي بالقيمة نفسها تقريبًا لتبلغ 61.62 دولارًا للبرميل.
ورغم هذا التراجع المحدود، فإن الأسعار ما زالت مرتفعة نسبيا مقارنة بمستوياتها السابقة، بعد أن حققت خلال اليومين الماضيين مكاسب أسبوعية بلغت حوالي سبعة بالمئة وهي الأعلى منذ منتصف يونيو الماضي.
أسواق النفط وضبابية المستقبل
ويجمع خبراء الطاقة على أن تذبذب أسعار النفط في الوقت الراهن يعكس حالة من عدم اليقين العالمي، الناتجة عن مزيج من العوامل المتشابكة تشمل تراجع الطلب في بعض الأسواق الصناعية الكبرى وتخوف المستثمرين من التباطؤ الاقتصادي العالمي، وتوترات الإمداد في مناطق الإنتاج الرئيسة.
ففي الوقت الذي شهدت فيه الأسعار قفزة قوية يوم الخميس بدعم من مؤشرات إيجابية حول ارتفاع الطلب العالمي، عادت الأسواق لتسجل اليوم حركة تصحيح طبيعية مع عمليات بيع لجني الأرباح، إلى جانب قلق المستثمرين من تأثير بيانات اقتصادية مرتقبة قد تعيد رسم ملامح السوق خلال الأسابيع المقبلة.
سوق النفط وتأثير الاقتصاد العالمي
وتراقب الأسواق عن كثب مخرجات السياسات النقدية للبنوك المركزية في الولايات المتحدة وأوروبا واليابان، إذ تسهم معدلات الفائدة المرتفعة في خفض وتيرة النمو الاقتصادي، مما ينعكس سلبًا على الطلب على الطاقة.
ويقول خبراء إن تباطؤ الاقتصاد الأمريكي وارتفاع تكلفة التمويل يؤديان إلى تراجع النشاط الصناعي والنقل وهما من أبرز القطاعات المستهلكة للنفط، فيما يواصل الاقتصاد الصيني – ثاني أكبر مستهلك للنفط في العالم – إظهار مؤشرات ضعف في قطاعي العقارات والتصنيع وهو ما يزيد من مخاوف المستثمرين من استمرار الضغط على الطلب العالمي.
من ناحية أخرى، لا تزال الأسواق تترقب تطورات الإنتاج في منظمة أوبك+، خاصة في ظل محاولات بعض الدول الأعضاء تحقيق التوازن بين الحفاظ على الأسعار وضمان حصصها السوقية.
وقد أشارت تقارير إلى أن بعض المنتجين الكبار يفكرون في خفض محدود للإنتاج خلال الربع الأخير من العام للحفاظ على استقرار الأسعار، بينما تميل دول أخرى إلى زيادة الإنتاج تدريجيا استجابة لتحسن الطلب في بعض الأسواق الآسيوية.
وفي هذا السياق، يرى الخبير النفطي الليبي د. عبد الرحمن الديباني أن التوازن بين العرض والطلب “أصبح أكثر هشاشة من أي وقت مضى”، مشيرا إلى أن أي اضطراب جيوسياسي في مناطق الإنتاج أو النقل يمكن أن يؤدي إلى قفزات مفاجئة في الأسعار خلال فترة وجيزة، وفق وكالة الأنباء الليبية.
وأضاف الديباني أن الأسواق “تتعامل اليوم مع معادلة معقدة، حيث يتداخل العامل الاقتصادي مع الجيوسياسي والبيئي، في وقت تتسارع فيه الدول الكبرى نحو التحول إلى الطاقة النظيفة”، موضحا أن هذا التحول قد يؤثر تدريجيًا على هيكل الطلب العالمي على النفط.
ولا يمكن تجاهل تأثير العقوبات الأمريكية والأوروبية المفروضة على بعض الشركات النفطية الروسية والإيرانية، التي ساهمت في خفض الإمدادات بالأسواق الآسيوية، مما أدى في فترات سابقة إلى ارتفاع الأسعار بشكل مؤقت.
لكن مع وجود بدائل جديدة في إفريقيا وأمريكا اللاتينية، بدأت الأسواق تجد نوعًا من التوازن النسبي، وإن كان هشا للغاية.
ويشير محللون إلى أن استمرار التوترات في الشرق الأوسط أو أي تعطّل في الملاحة البحرية في الممرات الحيوية مثل مضيق هرمز أو قناة السويس، يمكن أن ينعكس بسرعة على أسعار النفط، ويرفعها بنسب تتجاوز 10 بالمئة خلال أيام قليلة.
انعكاسات الأسعار على الدول المنتجة للنفط
بالنسبة للدول المنتجة للنفط، فإن التراجع الحالي لا يزال ضمن المدى الآمن الذي لا يشكل تهديدا مباشرا على الموازنات العامة، لكنه يدفع العديد من الحكومات إلى مراجعة خططها الاستثمارية.
وفي ليبيا مثلا، يتوقع أن تواصل المؤسسة الوطنية للنفط جهودها لرفع الإنتاج وتحسين الصادرات في ظل استقرار نسبي للأسعار فوق حاجز 60 دولارا وهو مستوى مقبول يضمن توازن الإيرادات دون ضغوط كبيرة على الميزانية.
ويرى اقتصاديون ليبيون أن تقلبات السوق العالمية تفرض على الدول المنتجة تعزيز تنويع مصادر الدخل وعدم الاعتماد الكلي على عائدات النفط، مع الاستثمار أكثر في الطاقة المتجددة والتقنيات النظيفة لضمان الاستدامة الاقتصادية.
وتتباين التوقعات بشأن اتجاه أسعار النفط في المدى القريب فبينما تتوقع بعض المؤسسات المالية العالمية، مثل مورغان ستانلي وبنك أوف أمريكا، أن تبقى الأسعار مستقرة بين 65 و70 دولارا للبرميل خلال الربع الأخير من العام، يرى آخرون أن استمرار ضعف الاقتصاد العالمي قد يدفع الأسعار إلى التراجع مجددا نحو مستويات 60 دولارا أو أقل.
وفي المقابل، تحذر وكالة الطاقة الدولية من أن نقص الاستثمارات في مشروعات الاستكشاف والإنتاج قد يؤدي إلى ارتفاع الأسعار على المدى المتوسط إذا لم تتم معالجة الفجوة بين العرض والطلب بشكل مستدام.
ومع تنامي الاهتمام العالمي بالتحول إلى الطاقة المتجددة، تشهد شركات النفط الكبرى تغييرات استراتيجية جوهرية فالكثير منها بدأ في الاستثمار في الهيدروجين والطاقة الشمسية، لتقليل الاعتماد على النفط الخام كمصدر رئيسي للدخل وهو ما يغير تدريجيًا خريطة الطاقة العالمية.
وتشير تقارير اقتصادية حديثة إلى أن الطلب على النفط سيواصل الارتفاع حتى عام 2030 قبل أن يبدأ في التراجع البطيء مع تسارع الاعتماد على السيارات الكهربائية والطاقة النظيفة في الدول الصناعية.
وفي المجمل، يعكس تراجع أسعار النفط الأخير حالة توازن مؤقتة ومضطربة بين عوامل دعم الأسعار وضغوط الهبوط، في سوق تتأثر بشكل متواصل بالقرارات الاقتصادية والسياسية العالمية.
ومع أن أسعار النفط ما زالت في مستويات مقبولة للدول المنتجة، فإن حالة الحذر تسيطر على الأسواق، في انتظار بيانات جديدة قد تحدد الاتجاه المقبل للنفط في نهاية العام الجاري.

